إندونيسيا في مرمى الصراع الصيني-الأمريكي- توازنات جيوسياسية وتحديات اقتصادية

المؤلف: د. خالد عزب09.14.2025
إندونيسيا في مرمى الصراع الصيني-الأمريكي- توازنات جيوسياسية وتحديات اقتصادية

في خضم المنافسة المتزايدة بين الصين والولايات المتحدة، تبرز إندونيسيا كلاعب محوري ذي تأثير بالغ في هذا الصراع الجيوسياسي الدائر.

تتمركز إندونيسيا على الطرف الجنوبي لبحر الصين الجنوبي، وهي دولة غنية بالموارد الطبيعية واقتصادها يشهد نموًا متسارعًا يتجاوز التريليون دولار، بالإضافة إلى تعداد سكاني ضخم. تمثل إندونيسيا مكسبًا استراتيجيًا بالغ الأهمية في الصراع الجيوسياسي بين واشنطن وبكين في قارة آسيا. بفضل ما يقرب من 17 ألف جزيرة تمتد عبر آلاف الأميال من الممرات المائية الحيوية، تعتبر إندونيسيا ضرورة دفاعية في ظل التوترات المحتملة بشأن تايوان.

أول ما يلفت الانتباه هو الموقع الجغرافي لإندونيسيا، إذ تُعد الصين الجارة الأقرب إليها في هذا الصراع. بالإضافة إلى ذلك، توجد جالية صينية ذات نفوذ داخل إندونيسيا، مما يجعل العلاقات بين البلدين وثيقة ومتينة.

تدرك الصين تمام الإدراك الأهمية الاستراتيجية لإندونيسيا بالنسبة لها. يركز التعاون الثنائي حاليًا على مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة. كما قدمت الصين استثمارات ضخمة، خاصة في تطوير استغلال رواسب النيكل، وشاركت في دعم مشروعات البنية التحتية، مثل إنشاء قطار فائق السرعة يربط بين جاكرتا وباندونغ.

يشكل الترابط الاقتصادي الركيزة الأساسية التي تقوم عليها العلاقات بين البلدين، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بينهما 139.42 مليار دولار. وعلى مدار 11 عامًا متتالية، ظلت الصين الشريك التجاري الأكبر لإندونيسيا، وتشهد هذه العلاقات نموًا مستمرًا.

على سبيل المثال، استقبلت إندونيسيا في عام 2023 أكثر من 790 ألف سائح صيني استمتعوا باستكشاف البراكين والجزر والمأكولات البحرية. وفي النصف الأول من عام 2024، زارها حوالي 570 ألف سائح، مما يجعل الصين واحدة من أهم الدول المصدرة للسياحة إلى إندونيسيا.

يتزايد اعتماد إندونيسيا على الصين في مختلف المجالات. ففي قطاع الزراعة الحيوي، أطلقت وزارة الزراعة الإندونيسية والمعهد الوطني الصيني لأبحاث الأرز في عام 2024 شراكة تهدف إلى تعزيز إنتاج الأرز وضمان الأمن الغذائي في إندونيسيا، بالاعتماد على أحدث التقنيات الزراعية.

من جهة أخرى، وسعت الصين نطاق تواجدها في قطاع السيارات الكهربائية في إندونيسيا، حيث قامت بإنشاء مصانع متوافقة مع حلول النقل المستدام.

إلا أنه على الجانب الآخر من العلاقات، تتصاعد التوترات التجارية في بعض القطاعات، مثل السيراميك والمنسوجات.

تغزو منتجات السيراميك الصينية السوق الإندونيسية بأسعار تقل بكثير عن أسعار المنتجات المحلية، مما اضطر وزارة التجارة الإندونيسية إلى تدمير ملايين السلع الصينية غير القانونية وفرض تعريفات جمركية تتراوح بين 100% و200% على بعض الواردات الصينية. يضاف إلى ذلك أن عددًا من مصانع المنسوجات الإندونيسية قد أُغلق بسبب إغراق النسيج الصيني للسوق الإندونيسية، مما يثير مخاوف بشأن رد الفعل الصيني تجاه هذه الإجراءات.

أدركت الصين بعدين هامين في العلاقة مع إندونيسيا:

  • البعد الأول هو الإعلام، حيث وسعت الصين نطاق تواصلها الإعلامي في إندونيسيا من خلال منتديات مثل المنتدى الإعلامي الصيني-الإندونيسي، الذي عُقدت آخر دوراته في بكين في أوائل سبتمبر/أيلول 2024.
  • البعد الثاني هو التنسيق الأمني، الذي وضع مسؤولون من كلا الطرفين أسسًا للتعاون فيه في عام 2024، مع التركيز على مكافحة الإرهاب وتبادل المعلومات الاستخباراتية والأمن السيبراني. ولا يزال بحر الصين الجنوبي يمثل قضية معقدة وحساسة في العلاقات الإندونيسية-الصينية، حيث تتداخل المنطقة الاقتصادية الخالصة لإندونيسيا في بحر ناتونا مع المطالبات الصينية الواسعة، مما يجعل إندونيسيا طرفًا فاعلًا ومؤثرًا في الأمن البحري الإقليمي.

شهد شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2024 تطورًا هامًا خلال زيارة الرئيس الإندونيسي برابوو سوبيانتو إلى بكين، حيث أصدرت إندونيسيا والصين بيانًا مشتركًا يعبر عن التزامهما بالتنمية في المنطقة المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي، وتحديدًا حول جزر ناتونا.

تجدر الإشارة إلى أن العلاقات بين البلدين ليست وليدة اللحظة، فقد كانت إندونيسيا أول دولة في رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) تقيم علاقات دبلوماسية مع الصين بعد إعلان جمهورية الصين الشعبية في أكتوبر/تشرين الأول 1949. إلا أن هذه العلاقات توقفت بعد الانقلاب العسكري في عام 1965، ولكنها عادت لتشهد إحياءً وتعمقًا خلال العقود الأخيرة، خاصة بعد انضمام إندونيسيا إلى مجموعة "بريكس" في عام 2024.

العلاقات مع أميركا

انطلقت العلاقات الإندونيسية-الأمريكية في عام 1949، واحتفلت بمرور 75 عامًا عليها في عام 2024، وشهدت واشنطن انعقاد الحوار الثاني حول السلام والازدهار والأمن بين البلدين، بمشاركة مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في جاكرتا ومعهد الولايات المتحدة للسلام.

أقر المشاركون في الحوار بأن العلاقات لا تزال تفتقر إلى العمق المنشود، إذ لا تحظى إندونيسيا باهتمام الولايات المتحدة إلا عند ظهور قضايا مثل التعصب الديني أو الهجمات الإرهابية، أو عندما تستثمر الصين في مشروعات جديدة في البلاد.

تواصل الولايات المتحدة تقديم دعمها الملموس لإندونيسيا لتعزيز قدراتها الدفاعية، وهو ما يتجلى في التدريبات المشتركة التي أصبحت الآن متعددة الأطراف، مثل تدريبات "درع سوبر جارودا"، ودعم خفر السواحل الإندونيسي.

من جهة أخرى، قد تؤدي سياسات الرئيس الأمريكي ترامب إلى إلقاء عبء الأمن الإقليمي لبحر الصين الجنوبي (حرية الملاحة) على عاتق إندونيسيا، مما يعزز دورها كفاعل إقليمي.

في المقابل، أحجمت إندونيسيا عن شراء طائرات إف-15، واقتنت 42 طائرة رافال من فرنسا، في حين يعتمد الجيش الإندونيسي على التسليح الروسي والغربي، ولا يزال تعامله مع السلاح الصيني محدودًا، ولكن هذا الوضع قد يتغير إذا دخلت الصين في برامج تصنيع عسكري مشتركة مع إندونيسيا.

على الصعيد التجاري، صدرت الولايات المتحدة بضائع بقيمة 11 مليار دولار إلى إندونيسيا في عام 2023، بينما بلغت الصادرات الإندونيسية إلى السوق الأمريكية 27.9 مليار دولار، مما يعكس تفوق الميزان التجاري لصالح جاكرتا.

على الرغم من أن العلاقة بين البلدين قد تمت ترقيتها إلى مستوى "الشراكة الإستراتيجية الشاملة"، إلا أن هذه الشراكة لا تزال ذات طابع رمزي إلى حد كبير، لأن إندونيسيا تفضل عدم الانحياز في النزاعات الدولية.

وفي ضوء هذا المشهد، تبدو جاكرتا حريصة على عدم إثارة حفيظة بكين، وفي الوقت نفسه تسعى للحفاظ على علاقاتها مع الولايات المتحدة، بينما تنكفئ واشنطن على ذاتها وتتبنى نهجًا عمليًا بحتًا في المنطقة.

يكمن التحدي الحقيقي الذي تواجهه الولايات المتحدة في أن معظم دول جنوب شرق آسيا، بما في ذلك إندونيسيا، لا ترغب في الانخراط في أي صراعات مسلحة، لأن الحروب قد تقضي على الإنجازات الاقتصادية التي حققتها هذه الدول، وهو الأمر الذي لم تدركه واشنطن بشكل كامل حتى الآن.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة